إلى أبي … من منبر أحلامي

إلى أبي … من منبر أحلاميimage

18 يناير 2017

لست أدري من أين أبدأ … وهل سيطاوعني قلمي … فكلماتي تصاغرت … وقلمي كاد يصب دموعاً … عباراتي تضاءلت … لكنها دفعتني جميعاً … لأرسم صورة ملونة … لكنها للأسف … ألوانها الأبيض والأسود فقط.

لا أعلم إن كنت فرحاً بها … أم أنا حزينٌ كل الحزن عليها … لكن ما أعلمه أنني فخورٌ بها جداً … لعل رسالتها التي عزفتها على قيثارة الحزن والألم … جعلتني أصر على أن أبحر بخاطري إلى دوحة مثمرة … أغصانها وارقة … وثمارها أمل … جعلتني أقطف هذه الوردة من تربتها المالحة … لأزرعها في روضة الحياة المروية بالأمل …

ربما تكون قصة مؤلمة … ربما تكون مفرحة … لكنها قصة واقعية بطلتها شجرة زرعناها في دوحة الأمل … و سقيناها من ندى ربيعنا … فاخضرت … بعد أن كادت تموت من عطش الفقر … تسلقت موكب الأمل … وعانقت مداد المستقبل فأثمرت وردة ناصعة البراءة … يملأ أريحها ترانيم الحياة … وتفوق عطرها على رائحة الموت في وطني الجريح.

هي حياتنا هكذا … بجبروتها … بشقائها … بغدرها … بألمها … لم تعرف الرحمة على قلب الطالبة (ف) التي اتخذت من شقاء القدر … ومرارة الفقر … دافعاً لما يمكن أن تفعله طفلة تأكل الخبز المطهو على بقايا الألبسة البالية … والطعام المنكه برائحة البارود.

لم يثنيها الفقر … ولم يعجزها حكم القدر … لم تثبط عزيمتها الحرب في وطنها … لم تكترث لأصوات الموت … ولا انقطاع الكهرباء … لم تبالي بالأوهام بل عشقت الأحلام … لم تعر اهتماماً للفقر … بل زادها إصراراً وعزيمة انتهى بها في كلية الطب البشري … لتحقق حلم والدها.

كانت تقول لي دوماً معلمي … اعلم أنه لا بد من نهاية لكل طريق … ومن نور لكل قمر … ومن مخرج لكل ضيق ومن ظل لكل شجر … كانت تردد هذه الكلمات بكثرة في آذاني، ولم أكن أعلم أن وراء هذه الكلمات إصرار كبير على فعل الكثير… كانت عيناها مملوءتان أملاً ودمعاً فعندما تقول لي معلمي … قسماً سأكون طبيبةً ماهرةً وسأعالج مجاناً … ولن أدع فقيراً إلا وسأساعده … أعدك بذلك. كنت أرى ذلك الإصرار الكبير في عينيها والذي توجته بعطائها … فاستحقت أن تنال المرتبة الاولى في منطقتها … ولتدخل كلية الطب … الحلم المنشود … الذي تمنى والدها أن يراها فيه …

(ف) طالبة الثالث الثانوي العلمي … من أسرة مكونة من سبعة أشخاص … منتهى أحلامهم الخبز وصديقهم الوحيد الفقر … أما زائرهم الثقيل فكان البرد … منزل اجتمع فيه علقم الخبز … بحلاوة العلم … فأثمر الخليط … طبيبة…

انتسبت (ف) إلى معهد أنامل الرستن … وكانت تقطع ستة كيلومترات مشياً على الأقدام برفقة والدها الذي كان يصر على أن يخفي فقره عن الجميع … حتى عن ابنته التي كانت تعلم بحاله … ولكنها كانت لا تشعره إلا برضاها عن هذا الحال …  وأية حال بعد ذلك اليوم المؤلم … حادثٌ مؤلم امتزج بقلة الكادر الطبي وضعف إمكاناته في هذه المنطقة لُيترك الأب مقعداً وتزيد العائلة بؤساً على بؤس.

إلا أن ذلك اليوم لم يكن نهاية كل شيء لتك الطالبة … زادها الحادث إصراراً وعزيمة على التفوق وتحقيق حلم والدها في أن تصبح طبيبة ماهرة تعالج المرضى وتخفف آلامهم … فكانت

تأتي إلى المعهد صباحاً وبعد الظهيرة تعمل عند الناس في الزراعة لتؤمن شيئاً من قوت أمها العجوز وإخوتها الأربعة الذين يعيشون  في غرفة واحدة ذات سقف مستعار … لم يثنيها فقرها عن متابعة الدراسة … ومواصلة دربها لتحقق حلمها…احتضنها معهد أنامل الرستن فكان لها أباً وأماً وخير معين قدم لها كل ما تحتاجه من حنان ورعاية فتفوقت ودخلت كلية الطب … وحققت الحلم المنشود … وكتبت لوالدها هذه الكلمات …

“أبي العزيز … إن كنت نائماً فاستيقظ … وإن كنت صاحياً فهلهل لابنتك … نعم يا أبي لقد فعلتها … لقد حققت حلمي وحلمك … وها أنا ذا أكتب لك كلماتي من منبر أحلامي … من داخل كلية الطب …

أبي… لن أنسى ذلك اليوم الذي فقدت فيه قدمك بسببي … لن أنسى ذلك الحادث المؤسف الذي كدت تفقد فيه حياتك في سبيل إيصالي لهدفي … كيف أنساه وأنا لا تبارحني صورة الدماء وهي تنزف من رأسك … وكيف انساه وانا لا تبارحني صورة قدمك التي فارقت جسدك … ولم يستطع أحد آنذاك إعادتها لك … كيف … كيف …

لماذا يا أبي ؟ لماذا أثقلتني بهذا العبء الكبير … لماذا لم تخبر الناس بفقرنا … لماذا … ؟ لماذا كنت تصر أن تقطع المسافات الطوال لكي توصلني إلى المعهد … لماذا تخبرهم بأننا فقراء … وتعساء … لماذا لم تخبرهم بأنك قد تجاوزت من العمر الستين عاماً ولا تسطيع إيصالي مشياً … لماذا لم يستطع أحد مساعدتك في إعادة قدمك لك …؟

آه … آه … يا أبي … لن أنسى صوت سيارة الإسعاف … ولن أنسى منظر الناس المجتمعين من حولنا آنذاك … كلهم يصرخون … يركضون … إلا أنا لم أستطع إلا أن أبكي وأبكي … لم أستطع فعل شيء وقتها … سوى النحيب …

آه يا أبي لو تعلم كم تلقيت من الحنان والرعاية بعد هذا الحادث … فلقد احتضنني معهد أنامل الرستن … فكان لي الأب الثاني … وقدم لي كل ما أحتاجه … نعن كل ما أحتاجه … تصور يا أبي … المسافات الطوال التي كنت تقطعها … كنت أقطعها أنا بعشر دقائق … فقد أمن لي واسطة نقل تأخذني إلى المعهد وتعيدني منه…اشتروا لي دفاتراً … وكتباً … نعم الكتب التي كنت تناضل من أجل تأمين ثمنها لي … وكيف أنسى دموعك وهي تنهال أمام الناس عندما قالوا لك: لماذا ابنتك لا تملك كتباً … نعم يا أبي … التف حولي أناس طيبون جداً وفروا لي كل ما أحتاجه من أدوات ومن أمل و تشجيع وزادوا إصراري إصراراً على تحقيق حلمي وحلمك … فكنت عند حسن ظنهم وظنك بي … لم يكتفوا بذلك بل ما زالوا حتى الآن يقدمون لي المساعدة بثمن كتب الجامعة ومصاريف الدراسة …

لم أجد يا أبي … أروع … وأفضل … من هذا الصرح العظيم … معهد انامل الرستن … أقسم أنني لن أنسى فضله مدى الحياة … كيف لا … وهو يقدم المساعدة للفقراء أمثالنا ويعتني بالفقير والغني … الكبير والصغير … إنهم حقاً أناس رائعون إنهم حقاً ياسمين الجنة …

أبي … وردتك أزهرت في هذه التربة المالحة … وأعدك ثم أعدك أن أبقى على عهدك … بأن أصبح طبيبة ماهرة أساعد الفقراء … وأقدم لهم ما يحتاجونه … قدمك … يا أبي كانت رمزاً لنضالي … وسأقبلها في الجنة …

ابنتك المخلصة..”